الجيش الباكستاني .. الدور والحكم والسياسة والتأثير
د. محمد صفر
مدير مركز دراسات الأقليات المسلمة في اسطنبول
منذ تأسيس الجمهورية الباكستانية، حظي الجيش بحضور قوي في السياسة والحكم، ونجح في بناء ترسانة عسكرية وامتلاك سلاح نووي، لتصبح باكستان الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك هذا السلاح،وخاض ثلاث حروب مع الهند، ونفذ سلسلة انقلابات كان آخرها عام 1999، ورفع شعار “إيمان، تقوى، جهاد في سبيل الله”.
وبرز دور الجيش في الحكم، منذ تعيين أيوب خان لمنصب وزير الدفاع، والذي نفذ انقلاب عام 1958، وأصبح الجيش منذ ذلك الوقت اللاعب الأساسي في السياسة، وسيطر على الحكم مباشرة لقُرابة نصف عمر البلاد، بينما لجأ في نصفها الآخر للتحكم بها عن بُعد، وتعود أطول فترة حكم عسكري في باكستان، إلى عهد رئيس الأركانالجنرال ضياء الحق، الذي شغب منصب الرئيس السادس للبلاد منذ عام 1978 حتى اغتياله عام ١٩٨٨.
وخلال حكمه، استأثر الجيش بالعلاقة مع البنتاغون وجهاز السي آي إيه، ووفقًا لبرقية أميركية فإنّ أيوب خان أبلغ القنصل العام الأميركي في كراتشي بأن الجيش لن يسمح للساسة أن يخرجوا عن السيطرة، فوظيفة الجيش حماية البلد، والجيش صديق للولايات المتحدة.[1]
وما يميز الجيش الباكستاني أنه وريث جيش بريطانيا لقرنين، لذا فإنه يملك خبرة وتجربة من خلال مشاركته بالحربين العالميتين الأولى والثانية، وورَّث تلك التجربة لأجياله اللاحقة، وهو ما يفسّر تمرسه بالسياسة أكثر من السياسيين، بل يرى نفسه المالك الشرعي لباكستان، ويبرز ذلك في تبرير الجيش للانقلابات، ففي عام 1958 برر الجنرال محمد أيوب خان السيطرة على الحكم بحاجة البلاد إلى قوة تحافظ على تماسكه.
وفي عام 1969 قال قائد إدارة الحكم العرفي الجنرال آغا محمد يحيى خان، إن الدور السياسي للجيش ضرورة لحماية البلاد من الدمار، والحجة ذاتها رددها الجنرال ضياء الحق عندما استولى على السلطة عام 1977، وهو ما كرره الجنرال برويز مشرف عام 1999.
وحتى في النموذج الأخير للحكم والذي جاء عبر صناديق الاقتراع وانتخابات شفافة لايزال نفوذ الجيش قويا فعمران خان الذي يعمل كرئيس للوزراء، يظل الجنرال قمر جاويد باجوا، رئيس أركان الجيش، هو الذي يتخذ معظم القرارات. فالأخير يدير العلاقات الخارجية للبلاد بشكل مستقل مع الحلفاء المهمين مثل الصين والمملكة العربية السعودية، ويتحكم في صنع القرار بشأن التعامل مع أفغانستان والهند المجاورتين، ويعقد إحاطات لقادة الأعمال، بل ويتخذ قرارات سياسية محلية مهمة، مثل قرار فرض إغلاق على الصعيد الوطني لاحتواء جائحة كورونا. كما أن قدامى المحاربين المتقاعدين أو المدنيين الذين تربطهم علاقات وثيقة بالجيش يشغلون مناصب رئيسية في حكومة خان، بما في ذلك وزارات الداخلية، والمالية، والتجارة، والأمن القومي، ومكافحة المخدرات. حتى أن الضباط العسكريين في الخدمة الفعلية يرأسون منظمات القطاع العام المهمة التي تدير الإسكان العام وإدارة الكوارث.
وربما سبق فترة عمران خان عهد من التعاون بين الجيش والسياسة عندما تولى قائد الجش السابق الجنرال المتقاعد راحل شريف، مهامه كقائد للجيش عام 2013م وعد آنذاك بوضع حد لسياسة الجيش السابقة وهي الاستيلاء على الحكم، مشدداً على تأييد المؤسسات السياسية في البلاد بهدف مواجهة ملفات اجتماعية وسياسية واقتصادية، لا سيما الأزمة الأمنية. وقد استطاع بفعل سياسته أن يسيطر على الوضع الأمني، ويحسّن علاقة الجيش مع الأحزاب السياسية، لا سيما حزب الرابطة الإسلامية الحاكم بقيادة رئيس الوزراء السابق نواز شريف لكن حالة التعاون الايجابي التكاملي لم يستمر طويلا بفضل وجود تيار سعى لخلق شقاق داخل الأجهزة العسكرية والأمنية مما أعاد الجيش مرة أخرى إلى التدخل في السياسة .
ولعل ما يميز النظام السياسي الباكستاني بما يعرف بـpraetorian military، أي جيش له دور سياسي قوي، الذي أطاح مرارًا وتكرارًا بالحكومات المدنية الضعيفة، حيث شهدت البلاد أربعة أنظمة عسكرية، حكمت لأكثر من ثلاثين عامًا يفسر هذا النفوذ القوي للجيش في السياسة .
وتعد باكستان دولة ذات أهمية حاسمة بالنسبة للولايات المتحدة، فهي حليف رئيسي وقوة إقليمية أساسية في منطقة جنوب شرق آسيا، وتمتلك السلاح النووي، وكانت في صف واشنطن خلال الحرب الباردة، واستفادت من التجاذبات بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، فحصلت عام 1979 من واشنطن على مساعدات عسكرية بنحو أربعمائة مليون دولار.
وفي عام 1981 حصلت إسلام آباد على دعم عسكري أميركي جديد قدر بنحو مليار ونصف المليار من الدولار، كان من ضمنه طائرات مقاتلة ودبابات وصواريخ مضادة للدبابات.
ومع الحدود غير الآمنة لباكستان، أصبحت أولوية الجيش الدفاع عن البلاد من التهديدات الخارجية، خاصة في ظل الصراع على الحدود وتوتر العلاقات مع أفغانستان والهند، ينما تتراجع أولوية المحافظة على الاستقرار الداخلي إلى درجة أقل في الأهمية.
الجيش الباكستاني والإسلاميون
أعتمد الجيش الباكستاني على الإسلام لفترة طويلة داخل المؤسسة العسكرية، وشكل الإيمان مصدر قوة موحدة للأمة الباكستانية لتحل محل الانقسام الطائفي والعرقي والمناطقي، فعلي سبيل المثال، فخلال فترة حكم الجنرال يحيى خان اتخذ الجيش دورًا دفاعيًا جديدًا؛ ليس فقط الدفاع عن هدف السيادة الإقليمية الباكستانية؛ ولكن أيضا الدفاع عن “الحدود الأيديولوجية” لباكستان الإسلامية، مقابل الهند الهندوسية.
وعلى حد تعبير يحيى خان “الدفاع عن باكستان هو الدفاع عن الإسلام”، ووظف الجيش الإسلام لتعزيز إرادته في القتال عن طريق الحط من شأن العدو،ووصل إلى درجة الصدارة أثناء فترة حكم ضياء الحق في السبعينيات، حيث تمت إضافة بعض المقررات الشرعية في المناهج الدراسية لكلية القيادة والأركان Command and Staff College ، كما سُمح للجماعات الإسلامية بتوزيع بعض الكتب الدينية على الضباط، وخيّر الضباط العلمانيون بين الالتزام بالإسلام أو التقاعد.
علاوة على ذلك، فمنذ عقود طويلة، نسجت عناصر المؤسسة الأمنية الباكستانية خاصة وكالة الاستخبارات علاقات جيدة مع المنظمات الإسلامية المتشددة، مثل جماعة طالبان الأفغانية، وحزب التحرير، ومنظمة القاعدة.
في الختام، تميز النظام السياسي الباكستاني بالتعطيل المتكرر للنظام الدستوري والسياسي من قبل الجيش، وضمور في المؤسسات السياسية، والعملية السياسية ذاتها، وصعود للبيروقراطية، وإعادة هندسة مستمرة للنظام من قبل القادة العسكريين لحماية سلطات وامتيازات المؤسسة العسكرية السياسية والاقتصادية.
وعلى الرغم من أن باكستان تعاني من عجز في الديمقراطية تاريخيًا، فهناك محاولات جديدة لإعادة الديمقراطيةلاقت دعمًا غير محدود في انتخابات مايو 2013، عندما اكملت حكومة مدنية للمرة الأولي في تاريخ البلاد مدتها الكاملة في الحكم، قبل نقل السلطة لحكومة مدنية أخرى.
وعلى الرغم من أن ديمقراطية باكستان المنقوصة؛ لكنها وصلت في الممارسة الديمقراطية إلى نقطة لم يعد من السهل تبرير الانقلابات العسكرية في البلاد،وصدرت عدد من التعديلات الدستورية التي حدت من سلطات الرئاسة، ونقلت موارد مالية وافرة ومسئوليات التي كانت تستفيد منها المؤسسة العسكرية من الحكومة المركزية إلى الأقاليم والسلطات المحلية.
أبرز محطات تدخل الجيش في السياسة
- 1953إعلان الأحكام العرفية في إقليم البنجاب، واستدعاء الجيش للسيطرة على الاضطرابات السياسية.
- 1954دخل رئيس أركان الجيش الجنرال أيوب خان الحكومة وزيرا للدفاع مع بدايات عام 1954 ليبدأ الدور السياسي للجيش واضحاً في البلاد.
- 1958وقع أول انقلاب عسكري، ولم تجد أي محاولة جدية لتحديد دور الجيش وإبعاده عن السياسة، رغم تولي الجنرال أيوب خان رئاسة البلاد حتى عام 1969.
- 1969-1971فترة حكم الجنرال يحيى خان، وعرفت مرحلته تحالف الجيش مع الطبقة البيرقرواطية.
- 1977استولى الجيش على الحكومة إثر انقلاب قاده الجنرال ضياء الحق على الرئيس ذي الفقار علي بوتو، واستمر في الحكم حتى مقتله في انفجار طائرته عام 1988.
- في سبعينيات القرن الماضي تصدى الجيش لتمرد وقع في إقليم بلوشستان، وساعد السعودية في حادثة سيطرة جماعة جهيمان العتيبي على الحرم المكي أواخر عام 1979.
- 1999انقلب الجيش بقيادة برويز مشرف على حكومة رئيس الوزراء نواز شريف.
- يونيو/حزيران 2001: عين الجنرال برويز مشرف نفسه رئيسا للبلاد بعد استفتاء شعبي.
- بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 أصبح الجيش الباكستاني عاملا رئيسيا في حرب الولايات المتحدة على ما تسميه الإرهاب بعدما أصبحت باكستان حليفا رئيسيا في تلك الحرب.
- 2006قام الجيش بعمليات عسكرية في بلوشستان، كما بدأ عمليات عسكرية في منطقة وزيرستان القبلية.
- 2007حاصر الجيش المسجد الأحمر عدة أيام ثم اقتحمه يوم 12 يوليو/تموز مما أسفر عن مقتل 73 من المتحصنين فيه من الطلبة.
- 2009بدأ الجيش أواخر أبريل/نيسان ومطلع مايو/أيار عملية عسكرية واسعة للقضاء على مسلحي حركة طالبان باكستان في وادي سوات والمناطق المجاورة لها.
- 2013 انتخب نواز شريف رئيسا جديدا للوزراء، بعدما أطاح به الجيش بقيادة قائد الجيش وقتها برويز مشرف.
- 2014 أدانت محكمة خاصة الجنرال برويز مشرف بتهمة الخيانة العظمى، وهو ما شكل سابقة تاريخية.
[1]نواز، شاه: “السيوف المتقاطعة”، ص142، مطابع أكسفورد، كراتشي، 2008.